في عام 1986، بينما يشتد التنافس المحموم بين الفرق خلال مباريات كأس العالم لكرة القدم في المكسيك، يلعب منتخب الأرجنتين ضد نظيره الإنجليزي في الدور ربع النهائي لتدخل هذه المباراة التاريخ من أوسع أبوابه بسبب حدث يعد من أكثر الأحداث التي أثارت الجدل في عالم الساحرة المستديرة. فأثناء المباراة، قفز أسطورة الكرة دييغو مارادونا، البالغ من العمر حينئذ 25 عاماً، عالياً وسدد هدفاً في شباك حارس المرمى الإنجليزي بيتر شيلتون، وسط ذهول جماهير ملعب أزتيكا الذين نظروا غير مصدقين إلى حكم المباراة، علي بن ناصر، الذي لم يطلق صافرته لإلغاء هذا الهدف العجيب الذي استخدم فيه مارادونا يده دوناً عن قدميه.
مضى هذا الهدف، الذي زعم مارادونا بأنه سُجِّل ’بيد الله‘، دون عقاب يذكر، ليصرح حكم المباراة التونسي لاحقاً بأن قلبه لم يطاوعه في إفساد فرحة احتفال مارادونا التي كانت أشبه بفرحة طفل مشاكس صغير خطا أولى خطواته حديثاً وعندما ارتكب خطأً جرى مسرعاً بسعادة يخالطها الذنب بعيداً عن توبيخ والديه بينما تعلو وجهه ابتسامة مصطنعة.
وبفضل هذا الهدف، فازت الأرجنتين على إنجلترا بنتيجة 2-1، حيث سجل مارادونا في هذه المباراة أيضاً هدفاً رائعاً آخر بمهارة فردية برهنت بجدارة على موهبته التي لا مثيل لها – لينطلق بعدها مع فريقه لحمل كأس البطولة.
ونظراً لما يتمتع به من ذكاء ومهارة كروية مع أخلاق مثيرة للجدل في الملاعب، كان مارادونا يحظى بالاحترام بقدر ما ينال من الذم والانتقاد. والآن، بعد أن بلغ 56 عاماً، يقول إنه لم يصبح ناضجاً بما يكفي لهزيمة المشككين في قدراته إلا منذ انتقاله إلى دولة الإمارات سنة 2011.
ويوضح قائلاً: ’’ربما لم أنضج بما فيه الكفاية سوى بعد أن بلغت الخمسين من عمري‘‘، ويضيف: ’’أعتقد أن لاعبي الكرة يشبهون شخصية بيتر بان (شخصية خيالية لولد مغامر يعيش في أرض لا يكبر فيها الأطفال أبداً)، لذا قد يمر زمن طويل إلى أن ندرك الأمور المهمة في الحياة. وقد جاء بي القدر إلى دولة الإمارات. ولم أكن أعلم وقتها أنها ستكون أهم خطوة لي في حياتي وأنني سوف أجد هنا البيت الذي يمكن أن أمضي فيه بقية عمري‘‘.
كان مجيء مارادونا إلى الإمارات مفاجأة أصابت الكثيرين بالدهشة. فقد كان قبل تسعة أشهر من تعيينه المفاجئ كمدير فني لنادي الوصل مدرباً لمنتخب الأرجنتين الذي يضم بين صفوفه النجم ليونيل ميسي، أثناء كأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا.
ثم استُبعِدَ مارادونا من هذا المنصب المهم بعد مدة قصيرة من الخسارة الثقيلة التي مُني بها منتخب الأرجنتين لكرة القدم أمام نظيره الألماني بنتيجة 0-4 خلال الدور ربع النهائي. ورغم هزيمة المنتخب، تلقّى مارادونا وعداً بالاستمرار مع الفريق وتوقيع عقد جديد مدته أربع سنوات لكنه يقول إنه كان من الواضح –حتى قبل وقت طويل من استبعاده– أن كبار مسؤولي الفيفا يريدون إبعاده عن منصبه.
ويوضح: ’’بعد هزيمتنا القاسية في مباراة واحدة، فوجئت بأن الناس الذين ظننت أنهم حلفائي يطالبون بعقابي. ولم يكن خوليو غروندونا [رئيس اتحاد كرة القدم الأرجنتيني السابق] ولا حتى سيب بلاتر [الرئيس السابق للفيفا] يريدان أن أتولى أي مسؤولية أو أن أقوم حتى بأي عمل في مجال كرة القدم. أعتقد أنهما كانا يظنان أنني لم أكن أستحق هذا العمل من الأساس. كان الناس ينظرون إلىّ حينئذ كشخصية مسببة للإحراج. وقد شعرت بالإحباط بعد أن غادرت الأرجنتين. فقد ساورتني الشكوك في موهبتي لأول مرة خلال مشواري الكروي. ثم فجأة يأتي من العدم عرض عمل في الإمارات. في تلك الفترة، كانت جميع الدول تعتبرني رجلاً ’سيء السمعة‘، ولكن الإمارات بأسرها، وليس فقط مشجعي نادي الوصل، عاملوني كأني بطل. شعرت بحفاوة بالغة، ما كان له أبلغ الأثر في بث الثقة في نفسي‘‘.
ورغم ذلك، لم يستمر مارادونا في منصبه بنادي الوصل لأكثر من 14 شهراً. فقد بدأ الفهود موسم 2011-2012 كأحد الفرق المؤهلة للفوز باللقب لينتهي بهم المطاف في المركز الثامن في دوري الخليج العربي، ما دفع مجلس إدارة النادي بكامل أعضائه إلى تقديم استقالتهم.
كما خسر مارادونا أيضاً دعم المشجعين الذين حلموا بتحقيق نجاحات فورية والوصول إلى منصات التتويج؛ ففي مباراة خسرها فريق الوصل أمام الشباب بنتيجة 0-2، وجد مارادونا نفسه مضطراً إلى الصعود إلى المدرجات ومواجهة المشجعين بعدما لاحظ تعدي عدد منهم بالألفاظ الجارحة على زوجته.
’’لا تسير الأمور بسهولة دائماً‘‘، هكذا قال مارادونا الذي لعب 91 مباراة دولية مع منتخب الأرجنتين، وقاد نادي نابولي إلى الفوز مرتين ببطولة دوري الدرجة الأولى. ويردف قائلاً: ’’لكل نادٍ عشاقه من المشجعين الذين يتمنون له النجاح وأنا أحترم ذلك، ولكن هذا ليس مبرراً أبداً لتنال من عائلتي. وإذا كان لدى أحد مشكلة معي فيجب أن يخبرني بها في وجهي. للأسف بذلت قصارى جهدي مع نادي الوصل، ولكنه لم يكن كافياً. فقد كنت في حاجة لبعض الوقت كي أعتاد على لغة جديدة، والعمل من خلال مترجم، كما كانت المباريات تبدأ في وقت متأخر وقد استغرقت بعض الوقت حتى أعتاد على ذلك. وقد أدركت، بعد فوات الأوان، أنه كان عليّ أن أنتظر بضعة أشهر أخرى قبل أن أعود لتولي إدارة الفرق‘‘.
بدا رحيل مارادونا عن نادي الوصل، دون وداع، آخر محطة تدريبية له. ولكنه اختار البقاء في الإمارات، وعمل أثناء ذلك بدوام جزئي كسفير لمجلس دبي الرياضي.
ويوضح قائلاً: ’’جئت هنا لأسباب كروية، ولكني سرعان ما وجدت ما هو أكثر من ذلك بكثير. أحببت الثقافة، والطقس، والأهم من هذا كله، شعب الإمارات. وأصبحت أعتبر نفسي ابناً لهذا البلد العظيم لأنهم يحترموني كإنسان. وقد يُعرض عليّ مئات المناصب ولكن لا أنوي الرحيل الآن‘‘.
’’أصبحت أعتبر نفسي ابناً لهذا البلد العظيم لأنهم يحترموني كإنسان. وقد يُعرض عليّ مئات المناصب ولكن لا أنوي الرحيل الآن‘‘
لكن المناصب لم تُمطَر على رأس أسطورة الكرة، رغم ما يقوله، بعد رحيله عن نادي الوصل. كان لا يزال يُنظَر إليه كشخصية ساحرة وسفير لرياضة رائعة، ولكن تعيينه كمدرب كان يشكل مجازفة كبيرة.
ولهذا، ظل خمس سنوات بعيداً عن ملاعب الكرة حتى مايو الماضي، عندما استدعاه نادي الفجيرة، الذي يلعب في دوري الدرجة الثانية، لقيادة الفريق فوافق مارادونا دون تردد. ويدفعنا ذلك بدوره إلى السؤال، لماذا يلعب رجل في قيمته دوراً جديداً وغير مألوف في مكان يقع على بُعد 170 كيلومتراً من دبي، في فريق يلعب في دوري الدرجة الثانية الإماراتي لكرة القدم؟
’’كل ما أفكر فيه الآن هو نادي الفجيرة. وكان من الممكن أن أقبل العمل في روسيا، أو كازاخستان أو أن أعود إلى الأرجنتين، ولكن الفجيرة هو الوحيد الذي له الأولوية حالياً بالنسبة إليّ‘‘
’’الإجابة بسيطة ‘‘، بهذه الكلمات أجاب مارادونا الذي لعب أمام 100 ألف مشجع في نادي برشلونة ولكنه يدير الآن فريقاً يبلغ متوسط عدد مَن يحضرون مبارياته 250 مشجعاً فقط. ويستطرد: ’’قررتُ العمل مع نادي الفجيرة لأنني افتقدت الوقوف على خط التماس، واشتقت لأن أكون عضواً في فريق لكرة القدم. وكل ما أفكر فيه الآن هو نادي الفجيرة. وكان من الممكن أن أقبل العمل في روسيا، أو كازاخستان أو أن أعود إلى الأرجنتين، ولكن الفجيرة هو الوحيد الذي له الأولوية حالياً بالنسبة إليّ. أعتقد أنني مدين، ليس فقط للكرة الإماراتية، ولكن للبلد بأسره. فعندما جئت هنا منذ ست سنوات، لم أكن أعلم حقاً ما الذي يمكن توقعه، ولكن سرعان ما تعلمت قيم الثقافة الإماراتية. لقد غيرتني إقامتي في الإمارات وحولتني إلى رجل أكثر نضجاً وجعلتني أهتم أيضاً بتاريخي الكروي‘‘.
وسيبدأ نادي الفجيرة الموسمَ الجديد بقوة ما سيشكل دعاية جيدة لدوري الخليج العربي، لذا لم يضع مارادونا أي وقت فتعاقد مع المهاجم الأرجنتيني غونثالو برافو الذي يلعب في فريق ديبورتيفو رييسترا ليدعم ترسانة هجومه.
ويعد الفجيرة نادياً طموحاً ولا ينقصه المال لدعم مارادونا، كما يمتلك تاريخاً في اجتذاب الأسماء الأجنبية الشهيرة للعمل كمديرين فنيين. وإحقاقاً للقول، لم يتعاقد النادي من قبل مع اسم ينافس شهرة مارادونا سوى المدرب التشيكي إيفان هاسيك الذي قاد نادي أهلي دبي للفوز ببطولة الدوري، والإيطالي ستيفانو كوزين الذي تولى إدارة فريق وولفرهامبتون واندررز في دوري كرة القدم الإنجليزي في الموسم الماضي.
ويقول مارادونا: ’’نحن عمالقة في هذا المجال لذا يعد الترويج أمراً مهماً. ومن هنا أتمنى أن ننجح في أن نجعل من أنفسنا قوة لا يستهان بها في دوري الخليج العربي. وهذا هو هدفنا. والآن إذا أراد أي شخص أن يهزم الفجيرة عليه أن يهزم مارادونا أولاً – وهذه مهمة مستحيلة!‘‘.
من الواضح أن مارادونا رجل له وجهة نظر خاصة في التدريب ويريد إثباتها وهو مستعد تماماً للبدء من القاع لتحقيق ذلك. وفي الواقع، هذا أمر يفضله، فكلما نزل درجات أسفل الهرم الكروي، تضاءلت العيون الراصدة له والفاحصة لتصرفاته.
ويقول: ’’أنا كلاعب أُحب أن يشاهدني الناس، ولكن كمدرب ليس الأمر ممتعاً دائماً لاسيما عندما لا تسير الأمور كما خططت لها. صحيح أنني ارتكبت أخطاءً كمدرب مع كل من الأرجنتين والوصل. ولكن في رأيي عندما تكون أحسن لاعب، فإن الانتقال إلى مجال التدريب ليس سهلاً، وخاصةً إذا بدأت مع فريق صغير. وقد كنت أفضل لاعب في العالم في كأس العالم سنة 1986. كان كل شيء يأتيني بسهولة وفزنا بالبطولة.
ويكمن التحدي في نقل هذه الحكم المستفادة من ذكريات الماضي الذي لا يُنسى، ولكن مع الإقرار أيضاً بأن اللاعبين الذين أعمل معهم الآن لا يتمتعون دائماً بمثل قدراتي. وأنا أعلم الآن أن تطوير المواهب، في أي مستوى كانت، سيجعل لي تاريخاً مشرفاً – فجميع اللاعبين الذين أعمل معهم سيحملون بصماتي وهذا ما سيبقيني حيّاً في الذاكرة. وقد أدركت في السنوات القليلة الماضية مدى أهمية هذا الأمر. فأنت ترى الزمن يتغير بسرعة. وهناك أجيال لا تتذكر حتى أنني كنت لاعب كرة. منهم حفيدي بنجامين، على سبيل المثال. وهو في الثامنة من عمره. بالطبع شاهد تسجيلات لمباريات لي كلاعب، ولكني أريد أن أكون مصدر إلهام له كمدرب أيضاً‘‘.
يتمنى مارادونا أن يكتب تاريخاً مشرفاً يثير الإعجاب، ولكنه مهما حاول فلن يستطيع الفرار من هدفه ’’يد الله‘‘. وحين سُئِلَ عن هذه اللحظة المثيرة للجدل في تاريخ الكرة، كانت إجابته عجيبة إلى حدٍ ما.
سألني ضاحكاً:’ ’أي هدف منهما؟‘‘، ثم أردف موضحاً: ’’كانا في الواقع هدفين – استخدمت يدي سنة 1990 في كأس العالم في إيطاليا لأمنع الكرة من دخول المرمى أمام الاتحاد السوفيتي. ومرة أخرى لم أحاسب عليه. ولو حدث هذا اليوم فربما كان سيتم استبعادي بسبب هدفيّ ’يد الله‘!‘‘.
ولأنه يريد تحسين صورته ونسيان لحظات الجنون وذكرى هذا الهدف –أو الهدفين كما يقول– أصبح مارادونا داعماً على نحو يثير الدهشة لتقنية الفيديو، رغم أنها كانت، لو تم تطبيقها في مجال الكرة منذ 31 سنة، لتكلفه غالياً وتودي به إلى خسارة ميدالية كأس العالم.
’’عندما أؤيد صراحةً تقنية الفيديو، يتهموني أحياناً بالنفاق‘‘، يتكلف الابتسام مضيفاً: ’’كل ما يمكن أن أقوله أن هدفي سنة 1986 لم يكن ينبغي احتسابه حينها ولا في هذه الأيام. لكني لا أستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولا أرغب في ذلك أيضاً. لأن غياب تقنية الفيديو منحني أنا والأرجنتين لحظات رائعة، ولكني أعتقد أن معظم المنتمين لعالم الكرة كانوا يفضلون أن أحرم منها. ومَن منا يجرؤ على الادعاء بأن تقنية الفيديو مضيعة للوقت؟ يكفي أن تنظر إلى ردود أفعال الناس بعد هدف ’يد الله‘ في شباك إنجلترا لترى كيف كان الجميع غاضباً من غياب العدالة. والناس تغضب عندما يُمنح إنسان ما لا يستحقه. والتكنولجيا تتيح الشفافية والجودة وتمنع الغش. ولن يكون هدفي سنة 1986 الهدف الوحيد الذي ينبغي ألّا يُحتسب. لا تَنْسَ أن إنجلترا فازت بكأس العالم سنة 1966 بهدف لم يتجاوز خط المرمى. وهناك كثير من الحوادث في تاريخ كأس العالم كانت من الممكن أن تتغير لو كانت هذه التقنية مستخدمة في ذلك الوقت‘‘.
من الواضح أن مارادونا على استعداد للتغيّر وفقاً لمتطلبات هذا العصر، لذا فإن انتقاله إلى نادي الفجيرة لا يعد خطوة إلى الوراء. فهي فرصة لإعادة اكتشاف نفسه كمدرب عصري بعد خمس سنوات من تواريه عن الأنظار بعيداً عن عالم الكرة. ويعترف بأن سنّه المتقدم قد يمنعه من العودة من تقاعده والعمل في أي نادٍ جديد، ولكن التقارير الصحفية تذكر أنه أبهر فريقه الجديد بمهاراته الكروية أثناء التدريب. كما أنه لم يتخلّ بعد عن حلمه في تحقيق المجد وقيادة الإمارات إلى كأس العالم يوماً ما.
ويقول: ’’لا أشعر بالولاء نحو الفجيرة فحسب، بل للإمارات بأسرها ‘‘، مضيفاً: ’’وإذا سارت الأمور على ما يرام في نادي الفجيرة، فلماذا لا أتولى تدريب المنتخب الوطني يوماً ما؟ تخيل هذا، الإمارات تلعب ضد الأرجنتين في نهائيات كأس العالم 2030 ودييغو مارادونا يقف على خط التماس. سيكون ميسي حينها عجوزاً للغاية لذا قد نتمكن هذه المرة من اقتناص الكأس!‘‘.