بدأت دوامتي الوجودية مع خدمة أوبر، والتي جعلت نظام تقييم الركاب من مستخدمي سياراتها أكثر سهولة مؤخراً. ولأنني بطبيعتي شخص أسعى دوماً لإرضاء الآخرين ونيل استحسانهم، لم أستطع المقاومة، ففتحت التطبيق، وضغطتُّ على الخانات الثلاث في الزاوية، وها أنا ذا أجد تقييماً مقداره: 4,74، وهو كتقييم من 5 يعتبر جيداً جداً! ولكن بالنظر إلى أنني سافرت على متن أكثر من 320 رحلة [باستخدام هذا التطبيق]، فهذا يعني أنني حصلت على أكثر مما أستحق من التقييمات بدرجة 4، ولربما حتى بعض التقييمات بدرجة 3. إلا أنني لم أجعل بتاتاً سائقاً ينتظر (طويلاً) أو أغلق الباب (بذاك العنف). لم أكن شخصاً يستحق تقييم أربعة من خمسة. حاولت إبعاد تلك الغمامة الداكنة التي تحوم فوقي وتنتقدني، لكني لم أستطع، لذا قرّرتُ إثبات أن خوارزمية أوبر قد اقترفت خطأً (وهذا ما فعلَتْه كما هو واضح) عبر تعقُّب أشكال أخرى من البراهين (أكثر موثوقية بكثير).
نُشِر للمرة الأولى على صفحات عدد خريف وشتاء 2018 من ڤوغ العربية للرجل.
ولم يكن إيجادها صعباً، حيث تمَّ اعتماد التقييمات التي أصبحت موجودة الآن في كل مكان لحل مشكلة الخطر الذي ربما يشكّله الغرباء في حقبة التبادلات التجارية على الإنترنت – ودونها لن تركب سيارة شخصٍ ما عشوائياً. وحيثما نذهب، تنعكس قيمتنا علينا؛ فعندما تدخل موقع Airbnb [المتخصص في تأجير أماكن السكن واستئجارها] يتم تقييمك؛ وعندما تقوم بإجراء تدريبات رياضية فالبعض منها يظهر نتائجه على لوحة إعلانات عامة قد تُسبِّب لك الإحراج؛ حتى إنّكَ لديك “مجموع نقاط المرغوبية” على تطبيق Tinder (والذي رفض التطبيق أن يفصح لي عنه رغم مراسلاتي العديدة له عبر البريد الإلكتروني). وبعدها بدأت أتساءل: ماذا لو أردت الحصول على تقييم على نطاق أوسع؟ فمعرفة أنني كنت راكب سيارة أجرة أو زائر منزلٍ كان أمراً لطيفاً، إلا أنه لم يكن هناك من طريقةٍ بعد للحصول على تقييم رقمي عام لي ككائن حي يتنفس ويسير على قدمين، والحل؟ استبيان عبر غوغل، كما يبدو.
وضعت 11 فئة -من بينها “الطيبة” و”إلى أي درجة قد توصي بهذا المنتج (أي أنا) لصديق؟”- ليتم تقييمها من 1 إلى 10. وقمتُ بتثبيت خانة لسؤال إجابته تكتب في نهاية الاستبيان، وهو: “ما الذي يثير حنقكم منِّي؟” ثم أرسلت ذلك إلى نحو 40 من أعز أصدقائي وأقربائي – وعدة حبيبات سابقات، طلباً للموضوعية، ثم انتظرت بعدها.
لم أكن قلقاً على الإطلاق، أعني ما الذي كنت سأكتشفه؟ أنا واحدٌ من أفضل الأشخاص الذين أعرفهم. إن كان بوسعكم تجاوز حقيقة أنني كنت أرسل إحدى استمارات غوغل إلى حبيباتي السابقات بسبب تقييم أقل من ممتاز قدمته لي خدمة أوبر، فإنكم سترون ذلك أيضاً: أنا رائع. أنا متزن. أنا طبيعي. على الأقل طبيعي بالقدر الذي يمكن أن يكون عليه المرء هذه الأيام، بما أننا نعيش سلفاً فيما يشبه إحدى حلقات مسلسل المرآة السوداء [مسلسل دراما وخيال علمي بريطاني]. مثل تلك الحلقة التي ظهرت فيها الممثلة برايس دالاس هوارد، حيث ينتج عن كل تفاعل بين أُناسٍ مسلحين بهواتف ذكية تقييمٌ من 1 إلى 5، ومجموع التقييمات الكلِّي يحدد نوع السيارة التي يمكنك استئجارها أو الطائرة التي تستطيع أن تركب على متنها. وفي الصين، آثر بعض المواطنين استعمال نظام ائتمان اجتماعياً مماثلاً، ومَن يحققون نتيجة عالية يمكنهم تجاوز نقاط التفتيش في مطار بكين، وهي نسخة استبدادية جداً من فحص السلامة قبل رحلة الطيران.
إلا أن هناك إنسانة واحدة تنتظر بفارغ الصبر مستقبل الاقتصاد المستند إلى التقييمات، وهي جوليا كوردراي، إذ تعرَّض تطبيقها Peeple –الذي تمَّ إطلاقه في بادئ الأمر في مارس 2016- لانتقادات واسعة وجهت له باعتباره “شبيها بتطبيق Yelp for People (تطبيق تقييمي للأشخاص). وبعد إغلاقه في العام 2017، ستتم إعادة إطلاقه هذا العام، وهو يريد أن يكون المنصة المسؤولة عن وضع رقمٍ على سمعتنا.
تقول لي: “أحلام جيل الألفية مختلفة عن أحلام آبائنا”، وتضيف: “يريدون أن يتمتعوا بحريّة الحركة والانتقال، وأن يستعملوا موقع Airbnb ويشاركوا سياراتهم ودراجاتهم الهوائية ومحمصات الخبز الكهربائية ومقطورات التخييم والمنازل الخاصة بكلٍ منهم. ولكي يقوموا بذلك، يجب أن يكون لديهم سمعة [طيبة]”. شخصياً لا أريد مشاركة محمصة الخبز الخاصة بي، ولكن أن وجب عليَّ فعل ذلك، أفضّل أن أُعرَف بلقب ليبرون جيمس التي تشارك [الآخرين] محمصة الخبز. لحسن الحظ، لم نصل بعد إلى حقبة الأجهزة التشاركية، ولكن ربما من الممكن أن تقدم لي الاستبيانات فكرةً حول الطريقة التي سأتبعها في المستقبل البائس ذاك. لقد بدأت تصلني الردود على تلك الاستبيانات -وللمفاجأة- كانت تسبب لي بعض القلق والارتباك. أحدٌ ما منحني تقييم عشرة من عشرة على جميع الأسئلة وكتب أن الشيء الوحيد الذي يثير حنقه منِّي هو “بصراحة أنك لست هنا معي الآن!” هل كانت تلك حبيبة جديدة… أو ربما أمي؟ وكتب آخر “نقص حب الذات” كان سمتي الأكثر إثارةً للإزعاج؛ في حين كتب ثالث: “أنت مغرور”. (يجب أن يلتقي هذان الاثنان). وآخر تعليقٍ كان: “لا تبالغ في التفكير”، وهو ما كانت قراءته غريبةً إذ بدأت أحاول بكل ما أوتيت من قوة معرفة مَنْ من “أصدقائي” منحني تقييماً بدرجة 1 في فئة “الاستقرار العاطفي” (وللأمانة: ليس مخطئاً). لقد ذكرني هذا بشيءٍ سمعته من باولو باريجي، وهو أستاذ في جامعة ستانفورد عمل لدى Airbnb وأوبر في دراسة آثار التكنولوجيا. وفي عالمٍ تتعرض فيه سمعتك للتقييم على نحوٍ متواصلٍ، يتحول كل مَن يحيط بك إلى قاضٍ محتمل أو إلى جاسوس – إن كان مَن يُجري التقييم شخص مجهول الهوية. فلكي تشارك في هذا النظام، عليك أن تعرِّض نفسك لمراقبة مستمرة، وهو أمرٌ رائعٌ، لأنه إن كان هناك أمرٌ واحدٌ يعشقه شخصٌ غير مستقرٍّ عاطفياً مثلي، فهو الشعور بأنه عارٍ وخاضعٌ للمراقبة. وفي النهاية، ملأ 32 شخصاً الاستمارة، ومنحوني مجموعاً متوسطاً قدره… 7,88. وهو، لعنة. في مستقبلٍ يعتمد على السمعة، من سيرغب بمشاركة محمصة الخبز الخاصة به معي؟ سأُحال إلى مرتبة أدنى أتناول فيها بسكويت الوفل المجمد، وأنا أفكر كيف حصلت على تقييم أعلى كراكب سيارة أوبر مما حصلت عليه كصديق. كانت ردة فعلي الأولية هي الشعور بعدم الأمان – التي تجلت لاحقاً بهيئة دفاعٍ عن النفس، تماماً مثلما حدث معي عندما رأيت تقييم أوبر لي في بادئ الأمر، لكن ما إن تجاوزت الضربات الموجعة التي وجهت إلى غروري، كان النقد، وبالرغم من أنه لاذع، نافعاً جداً في الواقع. حاولت الخروج من ذهني إلى العالم، والتوقف عن كوني مستغرقاً للغاية بنفسي.
تقول كوردراي: “جميعنا نفهم الشعور بالندم، والأوقات التي لم نقم بها بأفضل ما بوسعنا، ولكن بالمجمل إن تمحصّنا أنفسنا بشكل متعمق، فإن التقييم جيدٌ دائماً؛ التقييم يجعلنا ننمو”.
هي ليستْ على خطأ، إلا أن ما جعل الاستبيان الذي أجريته، وإن كان سخيفاً نوعاً ما، فعَّالاً بحق هو أن الأجوبة أتت من أشخاص يتحلُّون بفهم لائق في الواقع لما أكون عليه. في اقتصاد المشاركة، يتم تحديد التقييم من قبل أشخاص غرباء في الغالب، ما يمكن أن يخلق حالة تشبه حالة ارتهان. قال لي أحد سائقي أوبر إنه لا يتحدث إلى ركابه، لأنه لِمَ يجازف بقول ما هو خاطئ والإضرار بتقييمه المثالي؟
ومع نمو عالم التقييم المباشر وتحوّل سمعتنا إلى عملتنا على نحوٍ متزايدٍ، أخشى أننا سندخل حقبةً جديدةً تهيمن عليها المجاملات الفارغة والانتقادات اللاذعة – وحيث يمكن لأي شخصٍ غاضبٍ منا أن يدمر سمعتنا الاجتماعية، ولكن إن كان المستقبل يقوم على التصرف بحذرٍ شديدٍ مخافة الإساءة لأي أحد، فربما يكون السبيل لمجابهة ذلك هو أن نكون أكثر انفتاحاً مع الأشخاص الذين نعرفهم. فالطرق ذاتها التي تجعلنا التكنولوجيا من خلالها أكثر سطحيةً يمكن أن تؤثر عكسياً على فوائد الانفتاح على النقد. أودُّ أن أفكر أنه إن قدم لي هذا الاستبيان شيئاً -عدا عن تحسين الأمان الوظيفي لمعالجي [النفسي]- فقد ساعدني في أن أصبح شخصاً أفضل، حتى وإن كان ذلك بمقدارٍ ضئيلٍ.
وحسناً، ربما لا يجدر بك إرسال استبيانٍ تطلب فيه من أصدقائك أن يقيِّموك، ولكن على الأقل اسألهم ما الذي تفعله ويثير حنقهم أو كيف بوسعك أن تصبح أفضل [على الصعيد الشخصي]. على الأرجح أنَّ الأمر مصادفةً، لكن بعد الاستبيان ارتفع تقييمي على أوبر إلى 4,75. وليس لديَّ أدنى فكرة كيف حدث ذلك أو لماذا – أو مَن أعطاني تقييم الخمس نجوم الذي سبَّب هذا الارتفاع، وأعتقد أن ذلك على الأرجح للأفضل.
والآن اقرؤوا: من باريس إلى طوكيو، اكتشفوا أروع التصاميم المعمارية للمتاجر ودور الأزياء